الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فيمَا أَخْطَأْتُمْ به} أي لا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك مخطئين جاهلين قبل ورود النهي {ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} ولكن الإثم عليكم فيما تعمدتموه بعد النهي.أولا إثم عليكم إذا قلتم لولد غيركم يا بني على سبيل الخطأ وسبق اللسان، ولكن إذا قلتموه متعمدين، وما في موضع الجر عطف على ما الأولى، ويجوز أن يراد العفو عن الخطأ دون العمد على سبيل العموم ثم تناول لعمومه خطأ التبني وعمده.وإذا وجد التبني فإن كان المتبني مجهول النسب وأصغر سنًا منه ثبت نسبه منه وعتق إن كان عبدًا له، وإن كان أكبر سنًا منه لم يثبت النسب وعتق عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وأما المعروف النسب فلا يثبت نسبه بالتبني وعتق إن كان عبدًا {وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحيمًا} لا يؤاخذكم بالخطأ ويقبل التوبة من المتعمد.{النبى أولى بالمؤمنين منْ أَنْفُسهمْ} أي أحق بهم في كل شيء من أمور الدين والدنيا، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها، فعليهم أن يبذلوها دونه ويجعلوها فداءه، أو هو أولى بهم أي أرأف بهم وأعطف عليهم وأنفع لهم كقوله: {بالمؤمنين رؤوفٌ رَّحيمٌ} [التوبة: 128] وفي قراءة ابن مسعود {النبى أولى بالمؤمنين منْ أَنْفُسهمْ} وهو لهم، وقال مجاهد: كل نبي أبو أمته ولذلك صار المؤمنون إخوة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أبوهم في الدين {وأزواجه أمهاتهم} في تحريم نكاحهن ووجوب تعظيمهن وهن فيما وراء ذلك كالإرث ونحوه كالأجنبيات ولهذا لم يتعد التحريم إلى بناتهن {وَأُوْلُوا الأرحام} وذوو القرابات {بَعْضُهُمْ أولى ببَعْضٍ} في التوارث وكان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالولاية في الدين وبالهجرة لا بالقرابة ثم نسخ ذلك وجعل التوارث بحق القرابة {فى كتاب الله} في حكمه وقضائه أو في اللوح المحفوظ أو فيما فرض الله {منَ المؤمنين والمهاجرين} يجوز أن يكون بيانًا لأولي الأرحام أي الأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضًا من الأجانب، وأن يكون لابتداء الغاية أي أولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين أي الأنصار بحق الولاية في الدين ومن المهاجرين بحق الهجرة {إلاَّ أَن تَفْعَلُوا إلى أَوْليَائكُمْ مَّعْرُوفًا} الاستثناء من خلاف الجنس أي لكن فعلكم إلى أوليائكم معروفًا جائز وهو أن توصوا لمن أحببتم من هؤلاء بشيء فيكون ذلك بالوصية لا بالميراث.وعدي {تَفْعَلُوا} بإلى لأنه في معنى تسدوا والمراد بالأولياء المؤمنون والمهاجرون للولاية في الدين {كَانَ ذلك في الكتاب مَسْطُورًا} أي التوارث بالأرحام كان مسطورًا في اللوح.{وَإذْ أَخَذْنَا منَ النبيين ميثَاقَهُمْ} واذكر حين أخذنا من النبيين ميثاقهم بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين القيم {وَمنْكَ} خصوصًا.وقدم رسول الله على نوح ومن بعده لأن هذا العطف لبيان فضيلة هؤلاء لأنهم أولو العزم وأصحاب الشرائع، فلما كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل هؤلاء قدم عليهم ولولا ذلك لقدم من قدمه زمانه {وَمن نُّوحٍ وإبراهيم وموسى وَعيسَى ابن مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا منْهُمْ مّيثَاقًا غَليظًا} وثيقًا.وأعاد ذكر الميثاق لانضمام الوصف إليه وإنما فعلنا ذلك {لّيسئل} الله {الصادقين} أي الأنبياء {عَن صدْقهمْ} عما قالوه لقومهم أو ليسأل المصدقين للأنبياء عن تصديقهم لأن من قال للصادق صدقت كان صادقًا في قوله، أو ليسأل الأنبياء ما الذي أجابتهم أممهم وهو كقوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَا أُجبْتُمْ} [المائدة: 109] {وَأَعَدَّ للكافرين} بالرسل {عَذَابًا أَليمًا} وهو عطف على {أَخَذْنَا} لأن المعنى أن الله أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين وأعد للكافرين عذابًا أليمًا، أو على ما دل عليه {لّيَسْأَلَ الصادقين} كأنه قال: فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين.{يا أيها الذين ءامَنُوا اذكروا نعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} أي ما أنعم الله به عليكم يوم الأحزاب وهو يوم الخندق وكان بعد حرب أحد بسنة {إذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ} أي الأحزاب وهم: قريش وغطفان وقريظة والنضير {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهمْ ريحًا} أي الصبا.قال عليه السلام «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» {وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} وهم الملائكة وكانوا ألفًا بعث الله عليهم صبا باردة في ليلة شاتية فأخصرتهم وأسفت التراب في وجوههم، وأمر الملائكة فقلعت الأوتاد وقطعت الأطناب وأطفأت النيران وأكفأت القدور وماجت الخيل بعضها في بعض وقذف في قلوبهم الرعب وكبرت الملائكة في جوانب عسكرهم فانهزموا من غير قتال.وحين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة بإشارة سلمان ثم خرج في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنسوان فرفعوا في الآطام واشتد الخوف، وكانت قريش قد أقبلت في عشرة آلاف من الأحابيش وبني كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان، وخرج غطفان في ألف ومن تابعهم من أهل نجد وقائدهم عيينة بن حصن، وعامر بن الطفيل في هوازن وضامّتهم اليهود من قريظة والنضير ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة حتى أنزل الله النصر {وَكَانَ الله بمَا تَعْمَلُونَ} أي بعملكم أيها المؤمنون من التحصن بالخندق والثبات على معاونة النبي صلى الله عليه وسلم {بَصيرًا} وبالياء، أبو عمرو أي بما يعمل الكفار من البغي والسعي في إطفاء نور الله.{إذْ جَاءوكُمْ} بدل من {إذْ جَاءتْكُمْ} {مّن فَوْقكُمْ} أي من أعلى الوادي من قبل المشرق بنو غطفان {وَمنْ أَسْفَلَ منكُمْ} من أسفل الوادي من قبل المغرب قريش {وَإذْ زَاغَت الأبصار} مالت عن سننها ومستوى نظرها حيرة، أو عدلت عن كل شيء فلم تلتفت إلا إلى عدوها لشدة الروع {وَبَلَغَت القلوب الحناجر} الحنجرة رأس الغلصمة وهي منتهى الحلقوم، والحلقوم مدخل الطعام والشراب.قالوا: إذا انتفخت الرئة من شدة الفزع أو الغضب ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة.وقيل: هو مثل في اضطراب القلوب وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة.رُوي أن المسلمين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر قال: «نعم قولوا اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا» {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} خطاب للذين آمنوا ومنهم الثبت القلوب والأقدام والضعاف القلوب الذين هم على حرف والمنافقون، فظن الأولون بالله أنه يبتليهم فخافوا الزلل وضعف الاحتمال، وأما الآخرون فظنوا بالله ما حكى عنهم.قرأ أبو عمرو وحمزة {الظنون} بغير ألف في الوصل والوقف وهو القياس، وبالألف فيهما: مدني وشامي وأبو بكر إجراء للوصل مجرى الوقف، وبالألف في الوقف: مكي وعلي وحفص، ومثله {الرسولا} و{السبيلا} زادوها في الفاصلة كما زادها في القافية.من قال:
وهن كلهن في الإمام بالألف {هُنَالكَ ابتلى المؤمنون} امتحنوا بالصبر على الإيمان {وَزُلْزلُوا زلْزَالًا شَديدًا} وحركوا بالخوف تحريكًا بليغًا.{وَإذْ يَقُولُ المنافقون} عطف على الأول {والذين في قُلُوبهم مَّرَضٌ} قيل: هو وصف المنافقين بالواو كقوله: وقيل: هم قوم لا بصيرة لهم في الدين كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشبه عليهم {مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إلاَّ غُرُورًا} روي أن معتّب بن قشير حين رأى الأحزاب قال: يعدنا محمد فتح فارس والروم وأحدنا لا يقدر أن يتبرز فرقًا ما هذا إلا وعد غرور {وَإذْ قَالَت طَّائفَةٌ مّنْهُمْ} من المنافقين وهم عبد الله بن أبي وأصحابه {يا أهل يَثْربَ} هم أهل المدينة {لاَ مُقَامَ لَكُمْ} وبضم الميم: حفص أي لا قرار لكم هاهنا ولا مكان تقومون فيه أو تقيمون {فارجعوا} عن الإيمان إلى الكفر أو من عسكر رسول الله إلى المدينة {وَيَسْتَأْذنُ فَريقٌ مّنْهُمُ النبى} أي بنو حارثة {يَقُولُونَ إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} أي ذات عورة {وَمَا هي بعَوْرَةٍ إن يُريدُونَ إلاَّ فرَارًا} العورة الخلل والعورة ذات العورة وهي قراءة ابن عباس.يقال: عور المكان عورًا إذا بدا منه خلل يخاف منه العدو والسارق، ويجوز أن يكون عورة تخفيف عورة اعتذروا أن بيوتهم عرضة للعدو والسارق لأنها غير محصنة فاستأذنوه ليحصنوها ثم يرجعوا إليه فأكذبهم الله بأنهم لا يخافون ذلك وإنما يريدون الفرار من القتال {وَلَوْ دُخلَتْ عَلَيْهمْ} المدينة أو بيوتهم من قولك دخلت على فلاه داره {مّنْ أَقْطَارهَا} من جوانبها أي ولو دخلت هذه العساكر المتحزبة التي يفرون خوفًا منها مدينتهم أو بيوتهم من نواحيها كلها وانثالت على أهاليهم وأولاهم ناهبين سابين {ثُمَّ سُئلُوا} عند ذلك القزع {الفتنة} أي الردة والرجعة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين {لآتَوْهَا} لأعطوها.{لأتَوْهَا} بلا مد: حجازي أي لجاءوها وفعلوها {وَمَا تَلَبَّثُوا بهَا} بإجابتها {إلاَّ يَسيرًا} ريثما يكون السؤال والجواب من غير توقف، أو ما لبثوا بالمدينة بعد ارتدادهم إلا يسيرًا فإن الله يهلكهم، والمعنى أنهم يتعللون بإعوار بيوتهم ليفروا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وعن مصافة الأحزاب الذين ملئوهم هولًا ورعبًا، وهؤلاء الأحزاب كما هم لو كبسوا عليهم أرضهم وديارهم وعرض عليهم الكفر، وقيل لهم كونوا على المسلمين لسارعوا إليه وما تعللوا بشيء وما ذلك إلا لمقتهم الإسلام وحبهم الكفر.{وَلَقَدْ كَانُوا عاهدوا الله من قَبْلُ} أي بنو حارثة من قبل الخندق أو من قبل نظرهم إلى الأحزاب {لاَ يُوَلُّونَ الأدبار} منهزمين {وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولًا} مطلوبًا مقتضى حتى يوفى به.{قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إن فَرَرْتُمْ مّنَ الموت أَو القتل وَإذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إلاَّ قَليلًا} أي إن كان حضر أجلكم لم ينفعكم الفرار، وإن لم يحضر وفررتم لم تمتعوا في الدنيا إلا قليلًا وهو مدة أعماركم وذلك قليل.وعن بعض المروانية أنه مر بحائط مائل فأسرع فتليت له هذه الآية فقال: ذلك القليل نطلب.{قُلْ مَن ذَا الذي يَعْصمُكُمْ مّنَ الله} أي مما أراد الله إنزاله بكم {إنْ أَرَادَ بكُمْ سُوءًا} في أنفسكم من قتل أو غيره {أَوْ أَرَادَ بكُمْ رَحْمَةً} أي إطالة عمر في عافية وسلامة أي من يمنع الله من أن يرحمكم إن أراد بكم رحمة لما في العصمة من معنى المنع {وَلاَ يَجدُونَ لَهُمْ مّن دُون الله وَليًّا وَلاَ نَصيرًا} ناصرًا. اهـ.
|